الدكتور ياسين سعيد نعمان في حوار مطول : [ لا بدّ أن يعمل المجلس الانتقالي برؤية استراتيجية شاملة في علاقته ببقية فصائل الحراك، والمقاومة، والقوى السياسية والحكومة الشرعية، والقوى الاجتماعية الأخرى، فهذا هو المحيط الذي سيعمل في إطاره، وعلى الآخرين أن يبادلوه الرؤيا الموضوعية التي لا ينفصل فيها الموقف السياسي عن الحاجة إلى قوة سياسية بمستوى “المجلس” تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً في ترشيد الفعل السياسي على الأرض في ظرف يجري فيه اختراق سياسي بميراث الصراعات الماضية بما يشمله من عوامل تفكيك على أكثر من صعيد.]
الدكتور ياسين سعيد نعمان في حوار مطول :
[ لا بدّ أن يعمل المجلس الانتقالي برؤية استراتيجية شاملة في علاقته ببقية فصائل الحراك، والمقاومة، والقوى السياسية والحكومة الشرعية، والقوى الاجتماعية الأخرى، فهذا هو المحيط الذي سيعمل في إطاره، وعلى الآخرين أن يبادلوه الرؤيا الموضوعية التي لا ينفصل فيها الموقف السياسي عن الحاجة إلى قوة سياسية بمستوى “المجلس” تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً في ترشيد الفعل السياسي على الأرض في ظرف يجري فيه اختراق سياسي بميراث الصراعات الماضية بما يشمله من عوامل تفكيك على أكثر من صعيد.]
المرصد الإعلامي الجنوبي .
26-12-2017
أجرى "البُعد الرابع" حواراً مع د. ياسين سعيد نعمان ، ولأهميته يعيد المرصد الإعلامي الجنوبي" نشر هذا الحوار والذي يتضمن عددا من القضايا والمستجدات على الساحتين المحلية والخارجية , إذ يعتبر د. ياسين سعيد نعمان مرجعية محورية أسهمت - إلى حد بعيد - في صياغة أدبيات وآفاق المحطات السياسية المتنوعة منذ الوحدة وحتى حرب 94م، وصولا إلى الحراك الجنوبي وانتفاضة فبراير ومؤتمر الحوار الوطني .وقبل أن يغادر الرجل موقعه الحزبي كأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني، متجها إلى السلك الدبلوماسي الذي يتقلد فيه حاليا منصب سفير اليمن لدى المملكة المتحدة البريطانية، كتب ياسين عن مرحلة ما بعد الحوار وما قبل الحرب ليصفها بأنها أشبه بـ “عبور المضيق”.
غير أن معطيات اللحظة الراهنة تفيد بفشل البلاد ونخبها في عبور المضيق الذي بات مسيجا بالدم والنار، فإن قراءة الرجل لمجريات التاريخ مازالت ترى أملاً للتحرك نحو الأفضل، لاسيما فيما يخص تحولات الحركة الجنوبية، وما تعيشه عاصمتها عدن من أحداث دامية وصراعات مضمرة ومعلنة .. ..
نص الحوار :
يسعدنا في البداية - دكتور ياسين - أن تكون ضيفنا في “البُعد الرابع”، ولعلنا سنبدأ في هذا الحوار من حيث ما انتهت إليه العاصمة اليمنية صنعاء، والتي انتهت بمقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح.. برأيكم، لماذا قتل الحوثيون حليفهم الوحيد في الحرب؟
- كالعادة لا ينشغل الناس بجوهر الحدث ومضامينه، وإنما بالأشخاص الفاعلين في هذا الحدث، فالذين يحبون علي صالح قرروا أنه قُتل في بيته مقاوماً وبطلاً أما خصومه، فقد قرروا على نحو مختلف، بأنه قتل وهو هارب نحو بلدته “سنحان”، وهم بهذا لم يكتفوا بقتله على ذلك النحو الوحشي، وإنما لتكون موتته مخزية ولحرمانه من أي تعاطف، حتى إنساني، لا سيما وأن صالح كثيراً ما استخدم تعبير “الفار” نكاية بخصومه.
لا أهمية لهذا الجدل في ذاته، وإنما في صلته بأين سيرسو قارب المؤتمر “المنتفض” المتحرك وسط أجواء شديدة الضبابية.
ما الذي حققه الحوثيون بعد تخلصهم من صالح؟ وما الذي سيخسرونه؟ وما هو مصير حزب المؤتمر بعد مقتل رئيسه؟
- شكّل رحيل صالح خسارة متبادلة لطرفي تحالف الانقلاب، فالحوثيون خسروا المظلة السياسية والشعبية التي قدمها صالح لهم، ومؤتمر صالح خسر العامل الحاسم لوجوده ولاستمراره كقوة سياسية فاعلة في معادلة المشهد كاملاً. ولم يعد التحالف الانقلابي بتلك القوة والتنوع الذي كان عليه بعد أن بقي بلون واحد.
ولا يبدو - إلى الآن - أن هذه الخسارة لطرفي التحالف الانقلابي قد انعكست إيجابياً على الطرف الآخر من معادلة المشهد، أقصد الشرعية والمقاومة، على أي نحو كان.
انكسار التحالف، مع ما انتهى إليه، كان لا بدّ أن يعقبه إعادة صياغة المشهد بما يتفق مع ما تحدث به الرواة عن انتفاضة شعبية معبرة عن تبدلات سياسية جوهرية لدى المؤتمر الشعبي.
شهدت عاصمة الشرعية المؤقتة ضربات ارتدادية من قبل التنظيم الإرهابي “داعش” خلّفت العديد من الضحايا.. في أي سياق سياسي تقرؤون عملية داعش في خور مكسر ؟ وما تقييمكم للمشهد الأمني والعسكري المتشكل في عدن بعد الحرب؟
- الوضع الأمني في عدن لا يراد له أن يستقر، هناك حسابات توظف هشاشة الوضع العام بإحداث اختراقات أمنية خطيرة لخلط الأوراق السياسية، وهو عمل يمكن قراءته بسهولة إذا ما بسطنا خارطة الصراع على الطاولة لنعرف من يقف وراء هذه التفجيرات . داعش عنوان تختفي وراءه عناوين أخرى.
منذ أن تحررت عدن من أيدي الانقلابيين كان لا بدّ من وضع استراتيجية أمنية وسياسية واقتصادية و اجتماعية تتوحد على ضوئها المقاومة بكل أجنحتها لتشكل القوة التي يعول عليها في حماية عدن ومناطق الجنوب المحررة غياب هذا التفاهم وهذه الاستراتيجية ترك فجوات كبيرة مُلِئت بأدوات العنف وبمقاولي الإرهاب، وغيرها من الحسابات التي رتبتها الصراعات السياسية التي للأسف يعاد إنتاجها على نحو أسوأ، رغم كل هذه الظروف التي كان يمكن أن تكون محطة لتجاوز أخطاء الماضي وانفعالاته.
لمسنا على أرض الواقع مؤخراً جهوداً جدية من قبل قوات الأمن المحسوبة على الحراك الجنوبي وبدعم إماراتي مباشر لمكافحة الإرهاب، وقد تكلل هذا الجهد بتحرير الخارطة الجنوبية، فكيف يمكن تثبيت هذا الانجاز مستقبلا لاسيما في الجنوب؟ وهل مكافحة الإرهاب عملية أمنية محضة أم أنها تحتاج لمكملات سياسية واجتماعية ملحة؟
- الأمن عملية متكاملة يجب أن يشترك فيها الجميع، وخاصة القوى التي تكونت منها المقاومة، والحراك السلمي كان جزءاً فاعلاً في هذه المقاومة. وفي تقديري أن الرئيس هادي كان يدرك أهمية دور الحراك (المقاوم) في هذه المرحلة في تثبيت عملية الأمن، وكان قراره صائباً بهذا الخصوص وخاصة بعد استشهاد محافظ عدن اللواء جعفر محمد سعد، وشهدنا حالة مستتبة من الأمن، غير أن الأمن لا يمكن النظر إليه خارج البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأي بلد، فكل هذه عوامل تتكامل مع الأمن، وحلها ليس بيد مؤسسة الأمن بمفردها، ولكنها منظومة مؤسسية متكاملة يعبر عنها بالدولة والعلاقة مع التحالف، ما بالنا والبلد كلها لا تزال تحت وطأة الحرب .
ما الذي حدث؟ انعكس هذا الوضع بكل ثقله على الوضع الأمني مع غياب الرؤيا الاستراتيجية، وعدم توافق قوى المقاومة بأجنحتها المختلفة على صيغة شراكة فيما بينها ومع المنظومة المؤسسية للدولة، والتي كانت قيادات الحراك قد أصبحت جزءاً منها، وغابت الأدوات السياسية لإدارة علاقة الشراكة تلك.
واقع ما بعد الحرب فرض الكثير من المتغيرات في رأسها الحراك الجنوبي، فما تقييمكم لهذا الصعود الحراكي؟ وكيف تفسرون عوامل التوتر ما بينه وبين الشرعية؟ وكيف يجب أن تتعامل الشرعية معه من وجهة نظرك؟
- الحراك السلمي ليس منتجاً طارئاً لمرحلة ما بعد الحرب كما تعرف، لكن ما بعد الحرب تعزز دور الحراك بمقاومة مليشيات الحوثي/صالح الانقلابية، على طول جبهة امتدت لتشمل معظم الجنوب، وتحول من معارض خارج المجرى اليومي لمسار وعمل منظومة الدولة إلى شريك. غير أن هذه الشراكة لم تؤسس وفقاً لقواعد متفق عليها وإنما بتفاهمات على أهمية حماية المناطق المحررة في الجنوب بعد أن تزايد العمل الإرهابي الذي أصبح يهدد بخسارة كامل مكسب التحرير.
هذا التفاهم كان يحمل مضمون الشراكة التي فيما لو كانت أديرت بأدوات سياسية ورؤيا شاملة لقواعد العمل المنظمة لمواصلة التحرير من ناحية وإدارة المناطق المحررة من ناحية أخرى لتجنبنا كل هذه الثغرات والتوترات.. وفي تقديري لابد من حوار جاد يتحقق بموجبه توافق سياسي يقوم على عنصرين رئيسيين:
الأول: أن مهمة استكمال التحرير هي مهمة مشتركة للجميع، بحيث يعاد تعبئة الجهد المشترك باتجاه إنجاز هذه المهمة.
وثانياً: طمأنة الجنوبيين بالاحتفاظ بحقهم في تقرير مصيرهم.
يمثل المجلس الانتقالي الجنوبي حقيقة سياسية جديدة في المعادلة اليمنية والجنوبية .. فهل هذا الكيان هو تطور طبيعي لصيرورة الحركة الجنوبية،؟أم أنه وليد نزعة إرادوية، إن صح التعبير؟ وما موقفكم كمفكر سياسي ومناضل جنوبي من تحركاته الأخيرة ورؤيته السياسية؟
- من حق الناس أن ينظموا أنفسهم في تجمعات تعبر عنها برامج سياسية واجتماعية محددة، وقد كان الحراك السلمي حركة شعبية اكتسبت بعدها السياسي من المشروع السياسي الذي نادت به، غير أن ما ظل يؤخذ على هذه الحركة الشعبية الواسعة أنها لم تنتظم في كيان سياسي واحد، فطالما أن مشروعها واحد ، ما الذي يجعلها تتشبث بكيانات متفرقة، وأحياناً في مواجهة بعضها؟.
وهناك من بادر بإعلان كيان سياسي من الحراك، أطلق على نفسه “المجلس الانتقالي”، وتحرك وسط قاعدة شعبية واسعة كما اتضح من الفعاليات السياسية التي قام بها منذ نشوئه. ويحتاج في تقديري إلى توظيف هذه القاعدة الشعبية في ترشيد الموقف السياسي من القضايا التي تؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على قضية الجنوب. وإن يتجنب القرارات النخبوية التي تحكمها العواطف وردود الأفعال، كما كان شأن النخب دائماً.
وذلك أن هذا الزخم الشعبي الكبير الذي يلتف حوله تفرض عليه مسؤولية أن يفكر بجدية في كيفية إشراكه في القرار بطريقة تضمن تحويل هذه القوة الشعبية إلى إرادة سياسية، بمنظومة مؤسسية متكاملة ، وفي وضعه هذا الذي يحتل مكانة هامة فيما يخص قضية الجنوب لا بدّ أن يعمل برؤيا استراتيجية شاملة في علاقته ببقية فصائل الحراك، والمقاومة، والقوى السياسية والحكومة الشرعية، والقوى الاجتماعية الأخرى، فهذا هو المحيط الذي سيعمل في إطاره، وعلى الآخرين أن يبادلوه الرؤيا الموضوعية التي لا ينفصل فيها الموقف السياسي عن الحاجة إلى قوة سياسية بمستوى “المجلس” تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً في ترشيد الفعل السياسي على الأرض في ظرف يجري فيه اختراق سياسي بميراث الصراعات الماضية بما يشمله من عوامل تفكيك على أكثر من صعيد..
هناك قواسم مشتركة لا بد من إعادة استحضارها وتأسيس موقف من القضايا الحيوية التي تحتل حيزاً واسعاً من اهتمامات الناس والتي - للأسف - تغيب وسط عدد من المعارك الصغيرة التي تلتهم الجهد والطاقة وتوفر مناخات انقسامية خطيرة.
يعيش الشارع الجنوبي مناخ الذكرى الخمسين للاستقلال الوطني الثلاثين من نوفمبر، والذي أعلن فيه المجلس لانتقالي إشهار “جمعيته التأسيسية”، والتي ستعقد اجتماعها السبت المقبل (الماضي) .. كيف تتوقعون ردود الأفعال محليا وإقليميا إزاء هذا التطور اللافت؟
- الثلاثون من نوفمبر مناسبة وطنية لا بد أن تكون محطة لاستعادة الوعي بالمضمون التاريخي للاستقلال الوطني، محطة لاستعادة الوعي بالحاجة إلى بناء الموقف الحاسم من قضية العلاقة بين النخب والشعب من منطلق أصيل، يقوم على أن الشعب هو مالك السلطة ومصدرها عبر تصحيح تاريخي جريء لمسارات التجارب المختلفة، وأن هذه الحقيقة ترتب ضرورة نقل القرار إلى الشعب في كل ما يتعلق بتقرير خياراته السياسية. الذكرى الخمسين للاستقلال مناسبة للتذكير بالمشروع الوطني الكبير الذي هزمه الفساد وضعف الحامل السياسي والاجتماعي الذي اخترقته بقوة البِنى التقليدية المتناقضة موضوعياً مع هذا المشروع لتعيد إحياء المشاريع القديمة في الوعي الاجتماعي. ومع هذا لا بد من الاعتراف بأن تصحيح أرضية الانطلاق بتوثيق الصِّلة بهذا المشروع يجب أن لا تتصادم مع نزعة إصلاح الفكرة التي تمنع المزيد من التفكك، لأنني أعتقد أن ظروفاً مستقبلية ستتهيأ على نحو أفضل لصالح هذا المشروع، ولو بعد حين.
على خلفية الفشل والفساد الذي تعانيه الحكومة الحالية، بدأ المجلس الانتقالي خطوات تصعيدية للمطالبة بتغييرها.. فهل المجلس مؤهل ليكون بديلا سياسيا لإدارة الجنوب؟
- يستطيع المجلس أن يستكمل بنيانه السياسي بالوسائل التنظيمية كمؤسسة مدنية سياسية لها برنامجها ومشروعها وقواعدها، وبالاستناد إلى هذه الركائز الثلاث يمكنه أن يستكمل البناء التنظيمي على المستوى القاعدي الذي يؤسس البنية التنظيمية الأساسية، والتي ستتولى انتخاب الهيئات على صعيد المحافظات ، وهكذا بالتدرج حتى المؤتمر العام الذي سيكون مسؤولاً عن انتخاب القيادات المركزية.
هذا المسار الديمقراطي ضروري لتجذير حضوره في الفعل السياسي حتى لا يظل حركة شعبية بدون هوية تنظيمية - سياسية.
كيف يفترض بالانتقالي إدارة صراعاته السياسية؟ هل يتموضع كسلطة موازية أم معارضة سياسية؟
- كتبت عن هذا أكثر من مرة.. الجنوب عاش صراعات قبلية وعشائرية ومناطقية واسعة ما قبل نشوء المؤسسة السياسية في الخمسينيات من القرن الماضي، وعندما نشأت المؤسسة السياسية التي اخترقت حدود القبيلة والعشيرة لتُنشِئ مكونات سياسية تخطت هذه الحدود، كان ذلك إيذاناً بتصالحات اجتماعية عميقة حملتها هذه المؤسسة منذ خمسينيات القرن الماضي، فنشأت منظمات سياسية ومدنية ونقابات تواجد فيها أعضاء من كل سلطنات وقبائل ومشيخات ومدن الجنوب.. كانت هذه مرحلة مهمة، ثم جاءت مرحلة انقسام المؤسسة السياسية لتعيد انقسام المجتمع، ولكنه كان هذه المرة انقساماً أفقياً، في حين كان الانقسام القديم رأسياً.. ولا أقصد هنا بانقسام المؤسسة السياسية حالة التعددية السياسية التي فرضتها الحاجة للتنوع وفقاً للبرامج السياسية والاجتماعية، وإنما الأسلوب غير الديمقراطي لإدارة هذه التعددية والتنوع، والذي سلك طريق تصفية الآخر ، وكان أن لعب الحراك دوراً في استحضار خطورة هذه الانقسامات التي أخذت تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة مع كل صراع جديد، ودعا إلى التصالح والتسامح، وكانت هذه الخطوة أهم ما أُنجز على الصعيد السياسي والاجتماعي ، وعندما انقسم الحراك على نفسه تبعته انقسامات مقابلة وإن كانت أقل حدة.
الوضع اليوم يتحرك في اتجاه يثير الكثير من الخوف من أن يعاد إنتاج هذا الشكل من الصراع الذي يغذى للأسف من داخل البنى التي يفترض أن تشكل النقيض الموضوعي للقوى التي ترفض الدولة. وقد سبق هذا أولاً شحن الجنوب بثقافة أقرب إلى الانعزالية، مهدت بدورها لهذا النوع من الانقسام الداخلي. أسوأ ما تنتجه الثقافة الانعزالية هو أنها ترتد إلى داخل المنظومة ذاتها لتفككها من داخلها ؛ ولذلك فإن أول ما يجب على الجنوبيين الانتباه له لتجنب خطورة هذه الانقسامات هو رفض أي محاولة لإغراقهم في هذه الثقافة الانعزالية التي تجعلهم يرفضون يمنيتهم.
[ لا بدّ أن يعمل المجلس الانتقالي برؤية استراتيجية شاملة في علاقته ببقية فصائل الحراك، والمقاومة، والقوى السياسية والحكومة الشرعية، والقوى الاجتماعية الأخرى، فهذا هو المحيط الذي سيعمل في إطاره، وعلى الآخرين أن يبادلوه الرؤيا الموضوعية التي لا ينفصل فيها الموقف السياسي عن الحاجة إلى قوة سياسية بمستوى “المجلس” تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً في ترشيد الفعل السياسي على الأرض في ظرف يجري فيه اختراق سياسي بميراث الصراعات الماضية بما يشمله من عوامل تفكيك على أكثر من صعيد.]
المرصد الإعلامي الجنوبي .
26-12-2017
أجرى "البُعد الرابع" حواراً مع د. ياسين سعيد نعمان ، ولأهميته يعيد المرصد الإعلامي الجنوبي" نشر هذا الحوار والذي يتضمن عددا من القضايا والمستجدات على الساحتين المحلية والخارجية , إذ يعتبر د. ياسين سعيد نعمان مرجعية محورية أسهمت - إلى حد بعيد - في صياغة أدبيات وآفاق المحطات السياسية المتنوعة منذ الوحدة وحتى حرب 94م، وصولا إلى الحراك الجنوبي وانتفاضة فبراير ومؤتمر الحوار الوطني .وقبل أن يغادر الرجل موقعه الحزبي كأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني، متجها إلى السلك الدبلوماسي الذي يتقلد فيه حاليا منصب سفير اليمن لدى المملكة المتحدة البريطانية، كتب ياسين عن مرحلة ما بعد الحوار وما قبل الحرب ليصفها بأنها أشبه بـ “عبور المضيق”.
غير أن معطيات اللحظة الراهنة تفيد بفشل البلاد ونخبها في عبور المضيق الذي بات مسيجا بالدم والنار، فإن قراءة الرجل لمجريات التاريخ مازالت ترى أملاً للتحرك نحو الأفضل، لاسيما فيما يخص تحولات الحركة الجنوبية، وما تعيشه عاصمتها عدن من أحداث دامية وصراعات مضمرة ومعلنة .. ..
نص الحوار :
يسعدنا في البداية - دكتور ياسين - أن تكون ضيفنا في “البُعد الرابع”، ولعلنا سنبدأ في هذا الحوار من حيث ما انتهت إليه العاصمة اليمنية صنعاء، والتي انتهت بمقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح.. برأيكم، لماذا قتل الحوثيون حليفهم الوحيد في الحرب؟
- كالعادة لا ينشغل الناس بجوهر الحدث ومضامينه، وإنما بالأشخاص الفاعلين في هذا الحدث، فالذين يحبون علي صالح قرروا أنه قُتل في بيته مقاوماً وبطلاً أما خصومه، فقد قرروا على نحو مختلف، بأنه قتل وهو هارب نحو بلدته “سنحان”، وهم بهذا لم يكتفوا بقتله على ذلك النحو الوحشي، وإنما لتكون موتته مخزية ولحرمانه من أي تعاطف، حتى إنساني، لا سيما وأن صالح كثيراً ما استخدم تعبير “الفار” نكاية بخصومه.
لا أهمية لهذا الجدل في ذاته، وإنما في صلته بأين سيرسو قارب المؤتمر “المنتفض” المتحرك وسط أجواء شديدة الضبابية.
ما الذي حققه الحوثيون بعد تخلصهم من صالح؟ وما الذي سيخسرونه؟ وما هو مصير حزب المؤتمر بعد مقتل رئيسه؟
- شكّل رحيل صالح خسارة متبادلة لطرفي تحالف الانقلاب، فالحوثيون خسروا المظلة السياسية والشعبية التي قدمها صالح لهم، ومؤتمر صالح خسر العامل الحاسم لوجوده ولاستمراره كقوة سياسية فاعلة في معادلة المشهد كاملاً. ولم يعد التحالف الانقلابي بتلك القوة والتنوع الذي كان عليه بعد أن بقي بلون واحد.
ولا يبدو - إلى الآن - أن هذه الخسارة لطرفي التحالف الانقلابي قد انعكست إيجابياً على الطرف الآخر من معادلة المشهد، أقصد الشرعية والمقاومة، على أي نحو كان.
انكسار التحالف، مع ما انتهى إليه، كان لا بدّ أن يعقبه إعادة صياغة المشهد بما يتفق مع ما تحدث به الرواة عن انتفاضة شعبية معبرة عن تبدلات سياسية جوهرية لدى المؤتمر الشعبي.
شهدت عاصمة الشرعية المؤقتة ضربات ارتدادية من قبل التنظيم الإرهابي “داعش” خلّفت العديد من الضحايا.. في أي سياق سياسي تقرؤون عملية داعش في خور مكسر ؟ وما تقييمكم للمشهد الأمني والعسكري المتشكل في عدن بعد الحرب؟
- الوضع الأمني في عدن لا يراد له أن يستقر، هناك حسابات توظف هشاشة الوضع العام بإحداث اختراقات أمنية خطيرة لخلط الأوراق السياسية، وهو عمل يمكن قراءته بسهولة إذا ما بسطنا خارطة الصراع على الطاولة لنعرف من يقف وراء هذه التفجيرات . داعش عنوان تختفي وراءه عناوين أخرى.
منذ أن تحررت عدن من أيدي الانقلابيين كان لا بدّ من وضع استراتيجية أمنية وسياسية واقتصادية و اجتماعية تتوحد على ضوئها المقاومة بكل أجنحتها لتشكل القوة التي يعول عليها في حماية عدن ومناطق الجنوب المحررة غياب هذا التفاهم وهذه الاستراتيجية ترك فجوات كبيرة مُلِئت بأدوات العنف وبمقاولي الإرهاب، وغيرها من الحسابات التي رتبتها الصراعات السياسية التي للأسف يعاد إنتاجها على نحو أسوأ، رغم كل هذه الظروف التي كان يمكن أن تكون محطة لتجاوز أخطاء الماضي وانفعالاته.
لمسنا على أرض الواقع مؤخراً جهوداً جدية من قبل قوات الأمن المحسوبة على الحراك الجنوبي وبدعم إماراتي مباشر لمكافحة الإرهاب، وقد تكلل هذا الجهد بتحرير الخارطة الجنوبية، فكيف يمكن تثبيت هذا الانجاز مستقبلا لاسيما في الجنوب؟ وهل مكافحة الإرهاب عملية أمنية محضة أم أنها تحتاج لمكملات سياسية واجتماعية ملحة؟
- الأمن عملية متكاملة يجب أن يشترك فيها الجميع، وخاصة القوى التي تكونت منها المقاومة، والحراك السلمي كان جزءاً فاعلاً في هذه المقاومة. وفي تقديري أن الرئيس هادي كان يدرك أهمية دور الحراك (المقاوم) في هذه المرحلة في تثبيت عملية الأمن، وكان قراره صائباً بهذا الخصوص وخاصة بعد استشهاد محافظ عدن اللواء جعفر محمد سعد، وشهدنا حالة مستتبة من الأمن، غير أن الأمن لا يمكن النظر إليه خارج البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأي بلد، فكل هذه عوامل تتكامل مع الأمن، وحلها ليس بيد مؤسسة الأمن بمفردها، ولكنها منظومة مؤسسية متكاملة يعبر عنها بالدولة والعلاقة مع التحالف، ما بالنا والبلد كلها لا تزال تحت وطأة الحرب .
ما الذي حدث؟ انعكس هذا الوضع بكل ثقله على الوضع الأمني مع غياب الرؤيا الاستراتيجية، وعدم توافق قوى المقاومة بأجنحتها المختلفة على صيغة شراكة فيما بينها ومع المنظومة المؤسسية للدولة، والتي كانت قيادات الحراك قد أصبحت جزءاً منها، وغابت الأدوات السياسية لإدارة علاقة الشراكة تلك.
واقع ما بعد الحرب فرض الكثير من المتغيرات في رأسها الحراك الجنوبي، فما تقييمكم لهذا الصعود الحراكي؟ وكيف تفسرون عوامل التوتر ما بينه وبين الشرعية؟ وكيف يجب أن تتعامل الشرعية معه من وجهة نظرك؟
- الحراك السلمي ليس منتجاً طارئاً لمرحلة ما بعد الحرب كما تعرف، لكن ما بعد الحرب تعزز دور الحراك بمقاومة مليشيات الحوثي/صالح الانقلابية، على طول جبهة امتدت لتشمل معظم الجنوب، وتحول من معارض خارج المجرى اليومي لمسار وعمل منظومة الدولة إلى شريك. غير أن هذه الشراكة لم تؤسس وفقاً لقواعد متفق عليها وإنما بتفاهمات على أهمية حماية المناطق المحررة في الجنوب بعد أن تزايد العمل الإرهابي الذي أصبح يهدد بخسارة كامل مكسب التحرير.
هذا التفاهم كان يحمل مضمون الشراكة التي فيما لو كانت أديرت بأدوات سياسية ورؤيا شاملة لقواعد العمل المنظمة لمواصلة التحرير من ناحية وإدارة المناطق المحررة من ناحية أخرى لتجنبنا كل هذه الثغرات والتوترات.. وفي تقديري لابد من حوار جاد يتحقق بموجبه توافق سياسي يقوم على عنصرين رئيسيين:
الأول: أن مهمة استكمال التحرير هي مهمة مشتركة للجميع، بحيث يعاد تعبئة الجهد المشترك باتجاه إنجاز هذه المهمة.
وثانياً: طمأنة الجنوبيين بالاحتفاظ بحقهم في تقرير مصيرهم.
يمثل المجلس الانتقالي الجنوبي حقيقة سياسية جديدة في المعادلة اليمنية والجنوبية .. فهل هذا الكيان هو تطور طبيعي لصيرورة الحركة الجنوبية،؟أم أنه وليد نزعة إرادوية، إن صح التعبير؟ وما موقفكم كمفكر سياسي ومناضل جنوبي من تحركاته الأخيرة ورؤيته السياسية؟
- من حق الناس أن ينظموا أنفسهم في تجمعات تعبر عنها برامج سياسية واجتماعية محددة، وقد كان الحراك السلمي حركة شعبية اكتسبت بعدها السياسي من المشروع السياسي الذي نادت به، غير أن ما ظل يؤخذ على هذه الحركة الشعبية الواسعة أنها لم تنتظم في كيان سياسي واحد، فطالما أن مشروعها واحد ، ما الذي يجعلها تتشبث بكيانات متفرقة، وأحياناً في مواجهة بعضها؟.
وهناك من بادر بإعلان كيان سياسي من الحراك، أطلق على نفسه “المجلس الانتقالي”، وتحرك وسط قاعدة شعبية واسعة كما اتضح من الفعاليات السياسية التي قام بها منذ نشوئه. ويحتاج في تقديري إلى توظيف هذه القاعدة الشعبية في ترشيد الموقف السياسي من القضايا التي تؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على قضية الجنوب. وإن يتجنب القرارات النخبوية التي تحكمها العواطف وردود الأفعال، كما كان شأن النخب دائماً.
وذلك أن هذا الزخم الشعبي الكبير الذي يلتف حوله تفرض عليه مسؤولية أن يفكر بجدية في كيفية إشراكه في القرار بطريقة تضمن تحويل هذه القوة الشعبية إلى إرادة سياسية، بمنظومة مؤسسية متكاملة ، وفي وضعه هذا الذي يحتل مكانة هامة فيما يخص قضية الجنوب لا بدّ أن يعمل برؤيا استراتيجية شاملة في علاقته ببقية فصائل الحراك، والمقاومة، والقوى السياسية والحكومة الشرعية، والقوى الاجتماعية الأخرى، فهذا هو المحيط الذي سيعمل في إطاره، وعلى الآخرين أن يبادلوه الرؤيا الموضوعية التي لا ينفصل فيها الموقف السياسي عن الحاجة إلى قوة سياسية بمستوى “المجلس” تستطيع أن تلعب دوراً مؤثراً في ترشيد الفعل السياسي على الأرض في ظرف يجري فيه اختراق سياسي بميراث الصراعات الماضية بما يشمله من عوامل تفكيك على أكثر من صعيد..
هناك قواسم مشتركة لا بد من إعادة استحضارها وتأسيس موقف من القضايا الحيوية التي تحتل حيزاً واسعاً من اهتمامات الناس والتي - للأسف - تغيب وسط عدد من المعارك الصغيرة التي تلتهم الجهد والطاقة وتوفر مناخات انقسامية خطيرة.
يعيش الشارع الجنوبي مناخ الذكرى الخمسين للاستقلال الوطني الثلاثين من نوفمبر، والذي أعلن فيه المجلس لانتقالي إشهار “جمعيته التأسيسية”، والتي ستعقد اجتماعها السبت المقبل (الماضي) .. كيف تتوقعون ردود الأفعال محليا وإقليميا إزاء هذا التطور اللافت؟
- الثلاثون من نوفمبر مناسبة وطنية لا بد أن تكون محطة لاستعادة الوعي بالمضمون التاريخي للاستقلال الوطني، محطة لاستعادة الوعي بالحاجة إلى بناء الموقف الحاسم من قضية العلاقة بين النخب والشعب من منطلق أصيل، يقوم على أن الشعب هو مالك السلطة ومصدرها عبر تصحيح تاريخي جريء لمسارات التجارب المختلفة، وأن هذه الحقيقة ترتب ضرورة نقل القرار إلى الشعب في كل ما يتعلق بتقرير خياراته السياسية. الذكرى الخمسين للاستقلال مناسبة للتذكير بالمشروع الوطني الكبير الذي هزمه الفساد وضعف الحامل السياسي والاجتماعي الذي اخترقته بقوة البِنى التقليدية المتناقضة موضوعياً مع هذا المشروع لتعيد إحياء المشاريع القديمة في الوعي الاجتماعي. ومع هذا لا بد من الاعتراف بأن تصحيح أرضية الانطلاق بتوثيق الصِّلة بهذا المشروع يجب أن لا تتصادم مع نزعة إصلاح الفكرة التي تمنع المزيد من التفكك، لأنني أعتقد أن ظروفاً مستقبلية ستتهيأ على نحو أفضل لصالح هذا المشروع، ولو بعد حين.
على خلفية الفشل والفساد الذي تعانيه الحكومة الحالية، بدأ المجلس الانتقالي خطوات تصعيدية للمطالبة بتغييرها.. فهل المجلس مؤهل ليكون بديلا سياسيا لإدارة الجنوب؟
- يستطيع المجلس أن يستكمل بنيانه السياسي بالوسائل التنظيمية كمؤسسة مدنية سياسية لها برنامجها ومشروعها وقواعدها، وبالاستناد إلى هذه الركائز الثلاث يمكنه أن يستكمل البناء التنظيمي على المستوى القاعدي الذي يؤسس البنية التنظيمية الأساسية، والتي ستتولى انتخاب الهيئات على صعيد المحافظات ، وهكذا بالتدرج حتى المؤتمر العام الذي سيكون مسؤولاً عن انتخاب القيادات المركزية.
هذا المسار الديمقراطي ضروري لتجذير حضوره في الفعل السياسي حتى لا يظل حركة شعبية بدون هوية تنظيمية - سياسية.
كيف يفترض بالانتقالي إدارة صراعاته السياسية؟ هل يتموضع كسلطة موازية أم معارضة سياسية؟
- كتبت عن هذا أكثر من مرة.. الجنوب عاش صراعات قبلية وعشائرية ومناطقية واسعة ما قبل نشوء المؤسسة السياسية في الخمسينيات من القرن الماضي، وعندما نشأت المؤسسة السياسية التي اخترقت حدود القبيلة والعشيرة لتُنشِئ مكونات سياسية تخطت هذه الحدود، كان ذلك إيذاناً بتصالحات اجتماعية عميقة حملتها هذه المؤسسة منذ خمسينيات القرن الماضي، فنشأت منظمات سياسية ومدنية ونقابات تواجد فيها أعضاء من كل سلطنات وقبائل ومشيخات ومدن الجنوب.. كانت هذه مرحلة مهمة، ثم جاءت مرحلة انقسام المؤسسة السياسية لتعيد انقسام المجتمع، ولكنه كان هذه المرة انقساماً أفقياً، في حين كان الانقسام القديم رأسياً.. ولا أقصد هنا بانقسام المؤسسة السياسية حالة التعددية السياسية التي فرضتها الحاجة للتنوع وفقاً للبرامج السياسية والاجتماعية، وإنما الأسلوب غير الديمقراطي لإدارة هذه التعددية والتنوع، والذي سلك طريق تصفية الآخر ، وكان أن لعب الحراك دوراً في استحضار خطورة هذه الانقسامات التي أخذت تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة مع كل صراع جديد، ودعا إلى التصالح والتسامح، وكانت هذه الخطوة أهم ما أُنجز على الصعيد السياسي والاجتماعي ، وعندما انقسم الحراك على نفسه تبعته انقسامات مقابلة وإن كانت أقل حدة.
الوضع اليوم يتحرك في اتجاه يثير الكثير من الخوف من أن يعاد إنتاج هذا الشكل من الصراع الذي يغذى للأسف من داخل البنى التي يفترض أن تشكل النقيض الموضوعي للقوى التي ترفض الدولة. وقد سبق هذا أولاً شحن الجنوب بثقافة أقرب إلى الانعزالية، مهدت بدورها لهذا النوع من الانقسام الداخلي. أسوأ ما تنتجه الثقافة الانعزالية هو أنها ترتد إلى داخل المنظومة ذاتها لتفككها من داخلها ؛ ولذلك فإن أول ما يجب على الجنوبيين الانتباه له لتجنب خطورة هذه الانقسامات هو رفض أي محاولة لإغراقهم في هذه الثقافة الانعزالية التي تجعلهم يرفضون يمنيتهم.
اترك تعليقك